فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (28- 29):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
معنى الهمزة التي في {كَيْفَ} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناج، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء.
قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان.
فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في {كَيْفَ} حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال؛ فكان إنكار حال الكفار لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفةٍ عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} للحال، فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالاً وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، إلا لأن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على {كُنتُمْ أمواتا} وحده، ولكن على جملة قوله: {كُنتُمْ أمواتا} إلى {تُرْجَعُونَ}، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.
فإن قلت: بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها.
فإن قلت: فقد آل المعنى إلى قولك: على أي حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في {كَيْفَ} الإنكار. وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قَيِّل.
فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البتى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الفرقان: 49]، {وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة} [يس: 33]، {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21]. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس، فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر: وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء.
فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهراً. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور.
فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. {قبلكمْ} لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها.
فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية: جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. و{جَمِيعاً} نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً، من غير أن يلوي على شيء. ومنه استعير قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء}، أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في {فَسَوَّاهُنَّ} ضمير مبهم. و{سَبْعَ سماوات} تفسيره، كقولهم: ربه رجلاً. وقيل: الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل: جمع سماءة، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ {وَهُوَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه (ثم) لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: (ثم) هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السموات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17]. على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر.
فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: {والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30]؟ قلت: لا؛ لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأمّا دحوها فمتأخر.
وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله: {كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30] وهو الالتزاق.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
{وَإِذْ} نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن ينتصب بقالوا. والملائكة: جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. و{جَاعِلٌ} من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: {فِى الارض خَلِيفَةً} فكانا مفعوليه. ومعناه مُصَيّرٌ في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته.
فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟ قلت: أريد بالخليفة آدم. واستغني بذكره عن ذكر بنيه كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفاً يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ: {خليقة} بالقاف ويجوز أن يريد: خليفة مني، لأنّ آدم كان خليفة الله في ارضه وكذلك كلّ نبي {إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الارض} [ص: 26].
فإن قلت: لأي غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل: ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة {أَتَجْعَلُ فِيهَا} تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير.
فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة. وقرئ: {يسفُك}، بضم الفاء. ويُسفك. ويَسفك، من أسفك. وسفك. والواو في {وَنَحْنُ} للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان. والتسبيح: تبعيد الله عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء. وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد. و{بِحَمْدِكَ} في موضع الحال، أي نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك؛ لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك. {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة، وإن خفي عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أَتبعه من قوله {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا} واشتقاقهم {ءادَمَ} من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم (يعقوب) من العقب، و(إدريس) من الدرس، و(إبليس) من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمي؛ وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر وشالخ.
وفالغ، وأشباه ذلك {الأسمآء كُلَّهَا} أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لابد له من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: {واشتعل الرأس} [مريم: 4].
فإن قلت: هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وأن الأصل: وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت: لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات لقوله: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء}، {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل: أنبئوني بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها.
فإن قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أي عرض المسميات. وإنما ذكّر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت {إِن كُنتُمْ صادقين} يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وقوله: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض} استحضار لقوله لهم: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح. وقرئ: {وعُلم آدم} على البناء للمفعول.
وقرأ عبد الله: {عرضهن}.
وقرأ أُبيّ: {عرضها}. والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها: لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ: {أنبيهم} بقلب الهمزة ياء. {وأنبهم} بحذفها والهاء مكسورة فيهما.

.تفسير الآيات (34- 36):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
السجود لله تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه.
وقرأ أبو جعفر: {للملائكةُ اسجدوا} بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: {الحمد لله}. {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناء متصل، لأنه كان جنّيّاً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم، فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدُواْ} ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعاً {أبى} امتنع مما أمر به {واستكبر} عنه {وَكَانَ مِنَ الكافرين} من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فلذلك أبى واستكبر كقوله: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف: 50]. السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. و{أَنتَ} تأكيد للمستكن في {اسكن} ليصح العطف عليه. و{رَغَدًا} وصف للمصدر، أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً. و{حَيْثُ} للمكان المبهم، أي: أيّ مكان من الجنة {شِئْتُمَا} أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر، وكانت الشجرة فيما قيل: (الحنطة) أو (الكرمة) أو (التينة)، وقرئ: {ولا تِقربا} بكسر التاء. {وهذي}، {والشِّجرة}، بكسر الشين. {والشيرة} بكسر الشين والياء.
وعن أبي عمرو أنه كرهها، وقال يقرأ بها برابرة مكة وسودانها. {مِنَ الظالمين} من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله {فَتَكُونَا} جزم عطف على {تَقْرَبَا} أو نصب جواب للنهى. الضمير في {عَنْهَا} للشجرة. أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها. و(عن) هذه، مثلها في قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} [الكهف: 82]. وقوله:
يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وعَنْ شُرْبِ

وقيل: فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عنى ذاك: إذا ذهب عنك وزل من الشهر كذا. وقرئ: {فأزالهما} {مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة. أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عنها).
وقرأ عبد الله: {فوسوس لهما الشيطان عنها}، وهذا دليل على أن الضمير للشجرة، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها، فإن قلت: كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعدما قيل له: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص: 77].
قلت: يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وقيل: كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون.
قيل: {اهبطوا} خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل: والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] ويدل على ذلك قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}. وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض {لِبَعْضٍ} ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض. {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار أو استقرار {ومتاع} وتمتع بالعيش {إلى حِينٍ} يريد إلى يوم القيامة. وقيل: إلى الموت.